البيعتان في بيعة (3): دخول عقد على عقد (بيع الدين للمدين)


من الصور التي ساقها العلماء للبيعتين في بيعة أن يسلف رجل من آخر قفيز حنطة إلى شهرين، فإذا حل الأجل وطولب بالحنطة قال: بعني قفيز الحنطة الذي لك علي إلى أربعة أشهر بقفيزين، فصار بذلك بيعتان في بيعة، بدخول البيع الثاني على الأول، ورأوا أنه محل تحقق أوكس البيعتين أو الربا، وذلك في رواية أبي داود التي جاءت من طريق أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من باع بيعتين في بيعة فله أوكسها أو الربا"، فالوكس هو النقص، وأوكس البيعتين أنقصهما، يقول الخطابي في معالم السنن:" لا أعلم أحدا قال بظاهر هذا الحديث، وصحح البيع بأوكس الثمنين، إلا ما يحكى عن الأوزاعي، وذلك لما يتضمنه من الغرر والجهالة، فإن كان الحديث صحيحا فيشبه أن يكون ذلك حكومة في شيء بعينه، كأنه أسلفه دينارا في قفيز بر إلى أجل، فلما حل طالبه، فجعله قفيزين إلى أمد آخر، فهذا بيع ثان دخل على البيع الأول، فيردان إلى أوكسهما، أي أنقصهما، وهو الأول، فإن تبايعا البيع الثاني قبل أن يتقابضا كانا مربيين"، فوجه حصول البيعتين يكون بدخول البيع الثاني على الأول من خلال جعل مثمن البيع الأول - وهو قفيز الحنطة - ثمنا في البيع الثاني لشراء قفيزي الحنطة، وأما وجه جريان وجه الرجوع لأوكس البيعتين وإلا الوقوع في الربا فذلك أن البائع إما أن يرجع إلى أوكس البيعتين وهو قفيز الحنطة كونه أصل ما تعاقدا عليه، وإما أن يمضي على البيعة الثانية، فيأخذ قفيزي الحنطة، ليكون بذلك قد باع جنسا بجنسه متفاضلا، ومن غير تقابض، فيقع بذلك في الربا، ومن هنا نص الشوكاني على أن علة تحريم هذا الوجه هو الربا، إضافة إلى ما تقدم عن الخطابي من الغرر والجهالة.

على أن هذا الوجه تدخله علة تحريم أخرى، هي بيع الدين بالدين، وذلك أننا نجد ابن المنذر في كتابه "الإشراف على مذاهب العلماء" يمثل لبيع الدين بالدين المنهي عنه بأن يسلف الرجل للرجل في طعام، فيحل عليه، ليجعله سلفا في طعام آخر أكثر منه، أو يبيعه ذلك الطعام الذي في ذمته بدنانير إلى وقت ثان، ثم قال:" فهذا دين انقلب إلى دين مثله"، فالصورة الأولى التي ساقها هي عين الصورة التي ساقها الخطابي في بيان معنى الحديث، غير أن الخطابي بين وجه البيعتين في بيعة بقوله:" فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول"، فيما اعتنى ابن المنذر ببيان بيع الدين بالدين بقوله:" فهذا دين انقلب إلى دين مثله"، ومن هنا يتضح لنا سبب وروده في المعايير الشرعية الصادرة عن "هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية" في المعيار الشرعي (59) الخاص ببيع الدين، نظرا لأن هذه الصورة من التعاقد لها وجهان شرعيان، أحدها البيعتان في بيعة، والآخر بيع الدين، فبين المعيار الشرعي أن هذه الصورة عائدة إلى بيع الدين للمدين نفسه، وأنه جائز ما لم يؤد إلى الربا أو إلى دين جديد:

1- أما الربا، فلما كان الدين في هذه الصورة من الأموال الربوية، ومن جنس الدين، كان ضابطه كما في فجاء في البند (4/1/1/1-ب) بأنه:" يجب التماثل في المقدار، وقبض العوض في مجس العقد، كأن يكون تمرا فيباع بنوع آخر من التمر، أو أن يكون الدين ملحا بحريا فيباع بملح صخري"، وهو الموافق لما تقدم عن الخطابي.

2- وما الدين بالدين، فلما كان المبيع دينا - وهو قفيز الحنطة – بين البند (٤/١/٣/١) ضابطه بأنه:" لا يجـوز بيـع َّ الدين للمدين بدين جديد ينشـأ فـي ذمته إذا كان أكثر منه، وهو من قبيل فسخ َّ الدين في َّ الدين الممنوع ً شرعا"، وهو الموافق لما تقدم عن ابن المنذر.

وبهذا نخلص إلى أن العقود التي تجري فيها البيعتان في بيعة بدخول عقد في عقد يجري فيها محظوران، هما: الربا وبيع الدين بالدين. وأما إن اختلف جنس العوض عن جنس الدين فيلزم القبض فقط دون التماثل إن كانا من الأجناس الربوية، كاختلاف العملات النقدية، على أن لهذا النوع من التعامل ضوابطه الشرعية الخاصة به، ذكرتها في مقال سابق بعنوان (الضوابط الشرعية لصرف ما في الذمة - وفاء الدين بعملة مختلفة).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقد الوكالة في القانون (4): الموكل (شخصية طبيعية)

عقد الوكالة في القانون (3): سمات وخصائص عقد الوكالة

عقد الوكالة في القانون (2): مفهوم عقد الوكالة